تأخذني ذاكرتي .. في حقبة السبعينيات من القرن الماضي ، فرجان وسكيك تمتزج برائحة خبز الخمير من على بعد امتار، وأحيانا أخرى رائحة شواء السمك تخترق الأنوف، وأخرى رائحة البهارات الرائعة للصالونه (المرق ) التي تدخل الى حوي ( فناء ) البيوت تتسلق الأسوار والأبواب وتتخلل الجدران .. كانت علاقة الجيرة بين تلك الفرجان قوية جدا" تلاحظها من تبادل الأطباق والصحون والزيارات الصباحية للحريم والتجمعات في مجالس الرجال، وكان أكثرها وضوحا تماسك الأسر في الأفراح و الاتراح .
لازلت أذكر يدي وهي تتعلق بعباءة أمي ، متمتمه ببضع من الكلمات الربانية ، ( لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وانا إليه لراجعون ) ، هنا وجدتني بين حشد من النساء ووجوه يكتنزها الحزن، وصوت البكاء والصياح هنا وهناك ، ووجوه تنهمر من مقلها الدموع ، فالقلب يكاد ينفطر لهذا المشهد ، دسست وجهي داخل عباءة أمي فقد تسلل الخوف الي قلبي وبدأت اسمع تلك التمتمات ( الله يصبرها على مصابها الجلل ، المسكينة فقدتهم مرة واحده )، حينها وجدت تلك الأم المكلومة ( غاية ) وهي تحتضن من جاء يواسيها بفقدانها جميع فلذات اكبادها ولسان حالها يقول ( الحمدلله اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها ) ، اقتربت أمي منها وانا انظر لهذا الموقف الذي لم انساه يوما ، ولا يزال عالق في ذاكرتي ، احسست بألم في صدري و انا اسمعها تردد اسم صديقتي ( حمده ) التي ألعب معها دوما ، وأخوتها الثلاثة اسما تلو الآخر ، جاء اسم الموت بين الحضور ، لم اعي وقتها معنى كلمة الموت وتبعاته من الفقد و الحرمان كانت صورة هذه الأم والدموع تسيل على خديها اكبر دليل بأني فقدت صديقتي حمده ولن أراها أو ألعب معها مرة أخرى ، لن تشاركني لعبة الاختفاء مع بقية الصغيرات ( بنات الفريج ) ، جلست أمي بجوار الأم غاية جارتنا الطيبة وهي تسرد بكل حسرة واقعة الموت ، غرق أطفالها الأربعة جميعا .
جاء شبح الفقدان وفاجعة الموت بدون مقدمات في ذلك القارب ( اللنج ) وسط عاصفة هوجاء ،اختطفت فرحة الجميع وحولتها إلي كارثة وحزن عميق ، فقد جاءت ...
الدعوة الي حضور حفل زفاف أحد الأقارب في محافظة مسندم (ولاية خصب) بعمان ، ذاكرة أليمة لهذه الواقعة.
ونظرا لانتماء غاية (لقبيلة الشحوح – البداه) فقد كانت من مجمل العوائل التي لبت الدعوة لحضور حفل الزفاف ، وقد كان التنقل للوصول لهذه المنطقة آنذاك عن طريق البحر بتلك القوارب (اللنجات) الي أهلهم ، وكانت جارتنا غاية تصطحب أولادها الأربعة الأبنة حمده وأخوتها الثالثة مع بقية المدعوين .
وفي عرض البحر وتحديدا عند ساحل تيبات ، بدأت الأمواج العالية ترتطم بقوة بهذا القارب الصغير ( اللنج ) ، وصوت الرعد يخترق عباب البحر ورؤس الجبال ، تلاه ضوء ساطع يخطف الأبصار ، برق يشق السماء والبحر ويبدد ظلمة هذا البحر كوضح النهار ، حينها أخذ القارب يترنح بشدة حتى أنشق من المنتصف متزامنا مع صياح وبكاء الأطفال والنساء وتكبيرات الرجال (الله أكبر ،الله أكبر ) ، تساقط كل من في القارب غرقا وسط الأمواج ، وكانت الأم تبحث عن اطفالها وتحاول ان تنتشلهم بكل ما أوتيت من قوة ، كانت ماهرة في السباحة فقد تعلمتها من أبيها و جدها قبل انتقالها الى إمارة رأس الخيمة ، لكنها و للأسف لم تجدهم فقد تقاذفتهم الأمواج بعيدا ونجت ممن نجا سباحة الي شاطئ تيبات ،، فقدتهم جميعا لكنها كانت رابطة الجأش والفؤاد ،، صابرة محتسبة بقضاء الله وقدرة ،، فقد تربت في بيئة قبلية تكرس جهودها لتعليم القرآن وتعاليم الاسلام وسننه ، مع الجلد والاجتهاد في طلب الرزق بين هجرات شحية كا ( السي ، غليله ، الجادي ، الحرف ، قدي ، خصب )، فقد كانت تلك القبائل تتنقل ما بين الحصن الهرمزي أو كما يطلق عليه البعض البرتقالي ، وما بين سندوم و الجبل و الموشه ، حيث الأراضي الزراعية الخصبة واعتمادهم على المياه الجوفية ومحاصيل التمور صيفا ، ومن ثم العودة الي السواحل ورؤوس الجبال للرعي ، وكذلك الاتجاه الي السواحل للصيد و الاعمال البحرية و السفر الي مناطق الخليج .
توالت الشهور و السنوات وانا ارافق أمي زيارتها لهذه الجارة الطيبة غاية زيارة تلو الاخرى فقد رزقها الله بأربعة أبناء آخرين بنفس العدد و الجنس ، اطلقت عليهم نفس الأسماء ، والأكثر غرابة أنهم كانوا بنفس الهيئة و الشبه .. فسبحان الله ، لقد عوضها الله بكرمه وفضله جزاء صبرها واحتسابها لهذا المصاب .
قال تعالى: “وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة، قالوا إنا لله وانا إليه راجعوان ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”