حصلت هذه القصة في بدايات الألفية الجديدة.
أنهيت دراسة الطب في جامعة الإمارات واستطعت إقناع والدي بالموافقة على قرار إستكمال دراستي العليا في كندا. وهذا ما حدث بالفعل، ففي أواخر عام 2001 توجهت إلى كندا لدراسة تخصص طب الأطفال في مدينة كالجيري التي تقع غرب كندا وأخترت التخصص في مجال تنفس الأطفال.
مدينة كالجيري في كندا، المصدر: ويكيبيديا
تعتبر مدينة كالجيري صغيرة نسبيا مقارنة بالمدن الكبيرة الأخرى المشهورة في كندا مثل تورنتو ومونتريال وأوتاوا فعدد سكان مدينة كالجيري لا يتجاوز المليون نسمة. وحينما سكنت المدينة لم ألحظ أي تواجد بكثرة للمهاجرين والسواح العرب أو حتى الأجانب، فالسياحة هنا مقتصرة في الشتاء حيث تقام فيها البطولة الأولومبية للألعاب الشتوية منذ العام 1988 وذلك نظرا لجوها البارد وقربها من قمم جبال روكي الثلجيه.
مضت بي السنة الأولى والثانية سريعا قضيتها بين أروقة المستشفيات المتخصصة بالأطفال حيث تمتد ساعات تدريبي إلى حدود العشر ساعات يوميا ولا يبقى لي سوى نهاية الأسبوع حيث أقتنص ساعات قليلة منه لأقضيها في التعرف على معالم المدينة وطباع أهلها أنا وزميلتي العزيزة الدكتورة خولة.
وفي السنة الثالثة من مرحلة تدريبي في كالجيري وبالتحديد في العام 2004 حدث لي مالم يخطر على بالي!!
كنت في هذا العام أتنقل بين مستشفى البيرتا للأطفال ومستشفى فوت هيل المتخصص برعاية الخدج. ثم أبلغني المشرف المسؤول عن برنامج تدريبي التخصصي بوجود دورة مكثفة للعناية بالخدج تستلزم مني المكوث أسبوعا كاملا فيه. وفي أحد أيام هذا الأسبوع كنت في غرفة العناية المركزة أعاين طفلا كنديا ذكرا لم يكمل أسبوعه الثلاثين حيث تم تحويله للعناية المركزة لوجود صعوبات بالغة لديه في التنفس. وإلى جانب الطبيب الأخصائي فى الغرفة وقفت هناك مع فني وممرضتتين جميعنا متحلقين حول هذا الكائن الصغير أملا في إنعاشه بما توفر لدينا من معدات. وأثناء إنهماكي مع الفني في ضخ الأكسجين في هذا الجسد النحيل تفاجأت بالفني الكندي ريتشارد الذي عين حديثا في المستشفى يتمتم بعبارات عربية ركيكة قائلا:
إصحى يا حبيبي .. يالله يا حبيبي إصحى
أصابتني دهسة شديده وتسمرت في مكاني محدقة بريتشارد .. لم أسمع أحدا في هذا المستشفى يتحدث العربية .. تأملت وجه ريتشارد باستغراب وتفحصت ملامحه التي لا تدل على وجود أي عرق شرقي ، فريتشارد رجل أوروبي في منتصف الخمسينيات و بكامل المواصفات المعروفه لدى الأوروبيين من بياض البشرة الساطع والشعر الأشقر المائل للإحمرار .. ولم أتمالك نفسي من سؤاله: "كيف وأين تعلمت اللغة العربية؟ لا أعتقد أن هناك من سمع بها هنا في كالجيري!!"
عندها نظر الي ريتشارد بهدوء و بعد صمت وجيز اجابني مترددا: من زوجتي الخليجية التي تزوجتها حديثا!!!
وهنا عقدت الدهشة لساني وصرخت في داخلي: "خليجية" .. وبدأ سيل من الأسئلة يجتاحني حول أين وكيف ولماذا حصل هذا؟ لم أستطع التجرؤ بالإفصاح عما في داخلي من أسئلة له، واكتفيت على مضض بالسؤال الوحيد الذي طرحته عليه حول كيف تعرف عليها؟ فأجابني بأنه تعرف عليها في بلدها وأحبها ورفضت عائلتها تزويجها إياه فإتفق معها على تهريبها لبلده كندا عبر إحدى الدول العربية المجاورة ونجحا في ذلك.
وبعد مضي أقل من ساعة، دخلت إحدى ممرضات العنبر إلى الغرفة وتوجهات لريتشارد قائلة له وبعلامات إستغراب واضحة بادية على وجهها: هناك فتاة جميلة بالخارج تسأل عنك وتقول أنها زوجتك.
لم أستطع تصديق ذلك، وساورني فضول كبير لرؤيتها في الخارج وإقتناص هذه الفرصة لفهم ما يحدث وإيجاد أجوبة لما يدور في خلدي.
وبعد بضعة دقائق من خروج ريتشارد، تعللت للأخصائي المشرف بالذهاب قليلا لجلب بعض المواد الطبية من المختبر وحينما خرجت ، وجدت ريتشارد واقفا إلى جانب فتاة جميلة تتمايل بكل خفه ودلال إلى جانبه .. خليجية الملامح ذات بشرة حنطية تميل للسمرة قليلا وأكاد أقسم بأنها لم تتجاوز الـ 22 من عمرها. وقفت هذه الفتاة الصغيرة بكل غنج مطلقة شعرها الأسود السميك حول وخلف كتفيها العاريتين ترتدي فستانا بسيطا يرتفع قليلا عن الأرض بمقدار شبر على ما أذكر.
إنتابتني حاله من الغضب والإستنكار ممزوجة بموجة عارمة من الإستغراب حول كيف تمكن هذا الكهل البعيد عن الوسامة بمسافات من إقناع هذه الصغيرة بالزواج منه وكيف تجرأت على مفارقة أهلها وبلدها للعيش في بلد يبعد عنه آلاف الكيلومترات ولا يمت لأهلها بصلة من حيث اللغة والثقافة والعادات؟.. كيف إستطاعت الخضوع لرغبة هذا الرجل؟ .. كيف؟!
رآني ريتشارد من بعيد وناداني ليعرفني بها .. تجاذبنا أطراف الحديث لوهلة وجيزة ثم ودعتها ذاهبة لمقصدي ..
إنتهى إسبوع تدريبي المكثف في هذا المستشفى ومضت بي الأيام حيث تحول فيها هذا الحدث إلى مجرد ذكرى عابرة.

(مستشفى فوت هيل في مدينة كالجيري. المصدر: ويكيبيديا)
وبعد مضي عامين وبالتحديد في شهر سبتمبر ، كنت حينها في مرحلة التخرج حيث لم يبقى من مرحلة دراستي التخصصية سوى شهر واحد فقط، وفي نفس المستشفى، مستشفى فوت هيل، أنهيت دوام الفترة الصباحية وكنت في طريقي إلى كافيتيريا المستشفى لتناول وجبة الغداء وأثناء مروري في إحدى ممرات المستشفى لفت نظري وجود فتاة عاملة نظافة بالزي الرسمي للمستشفى تحاول إفراغ الكيس المملوء بالقمامة لإستبداله بكيس آخر نظيف. هذا مشهد عادي لا يلفت إنتباهي المعبأ بالحالات الصعبة التي علي تطبيبها في كل يوم ولكن شيء ما جعلني ألتفت لهذه العاملة حيث راودني إحساس غريب بأنني رأيتها من قبل!!
وبعد بضع لحظات بسيطة قضيتها في التحديق بوجهها وإذا بذاكرتي ترجع للوراء لتلك الفتاة الخليجية الصغيرة زوجة ريتشارد التي رأيتها قبل عامين .. ولكن عوضا عن شعرها المنسدل على كتفيها كما رأيتها من قبل لملمت شعرها بشكل عشوائي خلف رأسها .. أما صورتها التي إنطبعت في ذهني بفستانها العاري الكتفين تحول إلى زي عاملة نظافة في نفس المستشفى التي شاهدتها فيه أول مرة قبل عامين فقط !!
هنا توقفت في مكاني محدقة بها بذهول شديد وبدون تفكير إندفعت إليها قائلة: "ما حصل بك؟" لم تجب على سؤالي وأرخت رأسها. ألححت عليها برغبتي في مساعدتها ورفضت ذلك مشيحة بوجهها عني بكل ذل وإنكسار كأنها تعلن الإستسلام لقدرها.
ولكني بقيت أحاول إقناعها، أخبرتها أنه لم يبقى لي هنا في كالجيري سوى شهر واحد وسأعود بعدها إلى بلدي وناولتها ورقة كتبت فيها رقم هاتفي وطلبت منها الإتصال بي ولكنها لم تتصل بي حتى الآن !!