خلال عودتي من باريس إلى الرياض، جلست بجانب رجل نحيف الجسم، خفيض الصوت، دمث الأخلاق، حسن المحيا. سلمتُ عليه، وتعرفتُ عليه، وأخبرني بأنهُ من اليمن الشقيق، ويعمل في المملكة العربية السعودية في تجارة العطور، مظهرهُ يدل على الغنى، لديه مزرعة وبيت جميل في اليمن. وبعد أن دار الحديث معي ومعه، سرد لي قصته مع الغنى والفقر، فقال:
- غادرت بلادي اليمن إلى المملكة ولي من العُمر اثنتا عشر عاماً، أتذكر جيداً ذلك اليوم حين ودعت والدتي وإخوتي الصغار، رأيتُ والدتي تبكي لأول مرة وتستحلف الرجال أن يهتموا بي، وجمعتْ ما تستطيع من مال قليل، ودستّه في جيبي، مشيت حافياً وسرتُ مع القافلة، نمشي في النهار ويستضيفنا أهل الخير في الليل. وصلت إلى مدينة (جازان) على حدود المملكة الجنوبية، حيث يعمل عمي هناك، يمتلك محلاً صغيراً يبيع فيه المستلزمات اليومية، ويساعده ابنه الأكبر الذي يكبرني بثلاث سنوات.
- بقيت هناك سنتين، وفي إحدى المرات سقط من يدي مصباح وتهشّم، فنهرني ابن عمي، وحين رددت عليه مدافعاً عن نفسي؛ هجم عليّ بغضب، وعضني من فروة رأسي، وعلقني بين الأرض والسماء وكأنه تمساح أطبق على فريسته، كنت صغير الجسم نحيلاً، سالت الدماء على ثوبي الوحيد، ولم يدافع عني أحد، حتى عمي؛ فتملكني الغضب، وخرج المارد من القمقم، بدأت أفكر في الخروج من ذلك المتجر إلى الفضاء الواسع الرحب.
- غادرت مدينة (جازان) إلى الرياض سراً دون أن أخبر أحداً، أخذتُ معي القليل من الملابس والدراهم التي كانت معي. وصلتُ الرياض بعد ثلاثة أيام من السفر على الطرق الوعرة، بدأت أعمل في أي مهنة أجدها، كنت أتعلم بسرعة. عملت في التجارة بصبر وأمانة أجيراً لدى الآخرين، كان لدي هدف أريد تحقيقه، وهو أن أمتلك متجراً خاصاً بي مثل عمي، ويكون لدي من المال ما يكفي ويزيد لأبعث به لوالدتي، لأنني منذ غادرت اليمن لم أبعث لها بشيءً.
- عملت عند رجل كريم من أهل الرياض وأخبرته بما أنا عازم عليه، فشجعنيكثيراً. بعدها استطعت أن افتتحُ محلاً صغيرا خاصا بالعطور، عملت فيه ليل نهار، كنتُ أراهُ ينمو ويكبر كل يوم. اتسع المحل التجاري، ووظفت فيه من يساعدني، حينها اتسع الأفق أمامي، دخلتُ في شراكات مع آخرين، تعلمت خلالها الكثير. وقعت خلالها في كبوات لم تزدني إلا قوة وإصراراً، وانتقلتُ من حال حسنٍ إلى أحسن.
- والآن، أصبحت ثريا واتسعت تجارتي وعلاقاتي الخارجية .. أتيت من باريس، وقبلها بعدة أسابيع كنت في الصين، وبعد أسبوع سأتوجه إلى موسكو.
ثم أكمل حديثه قائلاً لي:
- إن كل ما حصل لي من خير، وما أصبتُ من نجاح، كان بسبب تلك المشاجرة والعضة بشكل خاص، وها هي آثارها موجودة على رأسي تذكرني بقسوة الحياة، وكأنها تقول لي: أنا سبب خروجك من مكانك الآمن، كنت فاتحة خير لك، حيثُ خلصتك من التبعية والاعتماد على الغير، ومكاني قريب من مخك؛ لذلك أيقظتكُ من سباتك ..
ثم أمال رأسه نحوي وأراني أثر العضة ..