في أحد احياء إحدى المدن كان يقطن أبو الكروش في بيت متواضع يقترب من الهلاك ، مع زوجته وستة عشر أبنا وبنتا. إعتاد أبو الكروش ولسنوات طويلة إطعام أهله كروش الأغنام والماشية ( الذبائح ) التي يشتريها من السوق القديم بوسط المدينة.
كان طبق (مرق الكروش ) المعد من كروش الأغنام التي يجلبها لبيته هو الطبق الوحيد الموجود على سفرة المائدة صباحا وظهرا ومساء حتى إستحق عن جدارة لقب "أبو الكروش" . فالكروش هي أقل ما يمكن دفعه في سوق اللحم، وإذا حصل أن طلب أو اشتهى أبنائه كثيرا الي الرز واللحم أصطحبهم الي بعض الولائم المقامة من قبل الأصحاب والجيران .
بدأ أبو الكروش حياته مكافحاً ومثابراً طامحاً أن يكون في مصاف أصحاب الثروات والمال والعقار فبدأ بجمع المال وتكنيزه حتى تطبع بالبخل الشديد فكان يجمع المال ولا يتصدق بريال واحد ، وكان لا يملك من متاع الدنيا شيئا ، لا له أو لزوجته أو أولاده ، لم يمتلك أبو الكروش من السيارات أو الأثاث أو الملبس ما يليق بما لديه من مال وثروة ، عاش متقشفاً وحرم زوجته وأولاده من لذة العيش وحلاوته . إعتاد أبو الكروش شراء كافة إحتياجاته اليومية والحياتية له ولزوجته وأبنائه من سوق الجملة، لم ينتعل أبناءه سوى الشباشب التي يقوم بشرائها مرة سنويا ، أما الملابس فشراءها يأتي متزامنا مع عيد الفطر أو الأضحى .
وإذا جئنا للمواصلات فكانت الـ (سابتكو) وهي الباصات التي توفرها الحكومة هي الوسيلة المفضلة لديه للتنقل بين المدن . يتنقل أبو الكروش عبر السابتكو بين المدن لجمع إيجارات عقاراته التي يملكها في مدن مختلفة.
وفي يوم من الأيام ذهب الي مدينة أخرى تبعد عن مدينته عشرات الكيلومترات من أجل جمع المال من مستأجري بعض البيوت التي يملكها هناك وحينما وصل للبيت الأخير الذي يمتلكه طلب منه الانتظار حتى عودة رب المنزل بعد صلاة العصر ،فما كان منه الا أن توجه الى أحد المساجد القريبة من البيت حتى حين عودة المستأجر ، فصلى أولا صلاة الظهر وبعدها فريضة العصر وفي كلا المرتين يلفت انتباهه رجلا يصلي في أبهى حلته من الثياب و أطيب الرائحة ، وكأنه أحد وجهاء أو امراء هذه المنطقة .
وبعد الإنتهاء من صلاة العصر خرج من المسجد إلى بيت المستأجر فطرق البيت وجاءه من يطلب منه الانتظار والعودة مرة أخرى بعد صلاة العشاء لانشغال رب المنزل ببعض الاعمال التى لم تسعفه للعودة إلى بيته .
عاد أبو الكروش إلى المسجد وبقى هناك إلى حين إقامة صلاة المغرب ثم صلاة العشاء ويعد أن فرغ من صلاة العشاء وإذا بالرجل الوجيه جالسا بجنبه، فبادره الرجل الوجيه بالسلام عليه قائلاً:
- أأنت غريب عن هذه المدينة ؟
- فأجابه أبو الكروش قائلا: نعم يا سيدي.
- فقال له الرجل الوجيه: هل تحتاج إلي المساعدة؟ إني أراك متعباً وقد شاهدتك تقيم جميع الصلوات من الظهر حتى العشاء ،
- فرد عليه أبو الكروش: إني أنتظر صاحب البيت القريب من المسجد لإستلام قيمة الايجار
- ثم قال له الرجل الوجيه: حسناً سأقيم اليوم وليمة للعشاء للأصحاب والجيران وأنت مدعو للحضور إلى مجلسي .
حاك في صدر أبو الكروش فضولاً كبيرا للتعرف على هذا الوجيه ودخول بيته ، وبالفعل حينما ذهب إلى بيته كان ما رآه أكثر مما توقع فالبيت يرتفع عاليا كأنه قصر حاكم بسور غليظ ذو بوابة فولاذية مزخرفة بنقوش رائعة ، وبعد إجتياز البوابة بقليل شيد مرآب كبير للسيارات يحوي أعداداً كبيرةً من أرقي وأغلى أنواع السيارات طرازاً وحداثةً.
دخل مجلس الوجيه حيث بدأ الناس بالتوافد تباعاً ثم مدت السفرة التي حوت مما لذ وطاب من صنوف الطعام والمشروبات، وبعد الانتهاء من الوليمة وانصراف أكثر الناس ، إتجه أبو الكروش إلى الوجيه حيث بادره بالسؤال قائلاً:
- هل لي أن أعرف ما هو عملك؟ زادك الله من نعيمه ولكن هل لي أن أسأل كيف جاءك كل هذا الخير؟
- فتبسم الوجيه قائلاً: أنا لا أعمل يا عزيزي ولكني أحسنت التخطيط لحياتي
- فسأله أبو الكروش ملحاً: أرجوك أخبرني كيف؟
- فأجابه الوجيه: حسناً سأخبرك ما دمت غريبا عن هذه المدينة. إنني يا عزيزي أتزوج الأرامل الثريات ممن ورثن الثروات الكبيرة عن أزواجهن. فلدي حتى الآن ثلاث زوجات ثريات من ثلاث مدن مختلفة تزوجتهن حالما ترملن.
- فبادره أبو الكروش بالسؤال: كيف إستطعت إقناع هؤلاء الأرامل بالزواج منك وأنت لاتعمل ولا تصرف عليهن
- فأجابه بإبتسامه خبيثة: إنني معروف بين الناس بالتزامي بإقامة جميع الصلوات في المسجد وأنا رجل أتزوج المترملات عن أزواج بخيلين جدا وهكذا أروج لمن أتقدم لخطبتهن بإنني سأعاملهن وأولادهن بكل طيبة وإحترام وكرم تنسينهن أيام الشقاء التي عانينها من قبل. وكما أخبرتك فأموال وثروات زوجاتي اللاتي ورثنهن عن أزواجهن البخيلين كبيرة لا تحتاج مني للعمل وستضمن لي العيش سعيدا أمداً طويلاً دون الحاجة إلى ذرف نقطة عرق واحدة في العمل.
- ثم أردف الوجيه قائلاً: سأخبرك بسر، ولكن هل تستطيع كتمانه؟
- أخبره أبو الكروش: طبعا بالفعل.
- ثم قال له الوجيه: حسناً، أخطط الآن بالزواج من المرأة الرابعة، إنها زوجة أبو الكروش من مدينة قريبة من مدينتنا فقد سمعت عن بخله الشديد على زوجته وأولاده ، وهذه المرأة تتفق مع النوعية التي تستهويني من النساء. فبمجرد سماعي بخبر موته سأتقدم لخطبتها والزواج بها لأعوضها عن بخل زوجها وسأعمل على إسعادها هي وأولادها بثروة والدهم .
عندها تحجرت مقلتي أبو الكروش وهو يستمع لهذا الخبر وكاد يطبق على الوجيه لولا أنه تمالك نفسه، فأستأذنه بالانصراف وشكره على عجل واتجه مسرعاً إلى أقرب سوق لتحميل المؤن مما لذا وطاب وكل ما يحتاجه أبنائه وزوجته من ملبس ، ثم إستأجر سيارة نقل خفيفة حتى تحمل له كل هذه الأغراض لبيته. وفي الطريق عائدا إلى مدينته أخذ يعيد التفكير في نمط عيشه وضرورة تغيير إهتماماته من العمل على تكنيز المال إلى العمل على إسعاد زوجته وأولاده.
وبالفعل قلب حياته نحو مزيد من الحب والعطاء والتضحية واسعاد كل من حوله ، كان لقاءه بذلك الرجل الوجيه أبو الأرامل ، مفترق الطريق في مسار حياته فما من مال باق أو كنز سائد.
قال تعالى (وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) 34.35 سورة التوبة
بقلم حصة المهيري، الإمارات